Monday, September 23, 2019

يعيش في مدينة سان فرانسيسكو العدد الأقل من الأطفال مقارنة

من جهة أخرى، فإن المساكن في كثير من مدن العالم الكبرى تتسم بأنها محدودة المساحة، بحيث لا تضم سوى غرفة نوم واحدة لا أكثر. وتشير التقديرات إلى أن المساكن المطروحة للإيجار في المدن الأمريكية الكبرى من تلك التي تتألف من ثلاث غرف، لا تزيد على خمسة في المئة فقط من إجمالي الوحدات السكنية الموجودة في هذه المناطق.
أما في مدن مثل لوس أنجليس، فلا تستطيع غالبية الأسر ذات الدخل المتوسط تحمل تكاليف المساكن المتاحة في السوق، من تلك التي تحتوي على أكثر من غرفة نوم. ولا يختلف الحال كثيرا في المدن التي تضم منازل ملائمة بشكل أكبر لمعيشة الأسر مثل أمستردام. فالوحدات العقارية الموجودة هناك، تُقسّم غالبا إلى وحدات أصغر، تستوعب كل منها ساكنا واحدا، وتؤجر للعُزاب ولمن ليس لديه أطفال.
ويشكل ذلك أمرا مربحا للمطورين العقاريين ومُلّاك العقارات الذين يستطيعون جني أموال أكبر من تأجير وحدات سكنية أكثر عددا، دون أن يتطلب الأمر منهم البناء على مساحات إضافية.
ومن بين الوسائل التي عالجت بها السلطات المحلية في أمستردام، مشكلة عدم وجود مساحات كافية لبناء العقارات، تشييدها أبراجا شاهقة الارتفاع.
لكن كراستِن، التي تعيش في أحد أحياء العاصمة الهولندية مع أسرتها منذ عقود، تشير إلى أن هذه الأبراج ليست "صديقة للأسر" للغاية في غالبية الأحيان.
وأظهرت دراسة أجرتها هذه الباحثة أن الأسر - حتى في هونغ كونغ التي يشيع فيها سكن العائلات في مثل هذه المباني الشاهقة - تشكو من هذا الشكل من أشكال البناء، نظرا لأنه يعزل الضوضاء بكفاءة أقل. فضلا عن ذلك، تفتقر تلك الأبراج للمساحات الفضاء التابعة للوحدات السكنية الموجودة فيها - مثل الأفنية أو الحدائق المنزلية.
لكن ذلك لا يعني استحالة أن تكون الأبراج ملائمة لحياة الأسر. فبعض الأبراج السكنية الموجودة في سنغافورة تفخر بالحدائق المقامة على أسطحها وأماكن اللعب المخصصة للأطفال فيها، وهو ما يوحي بأن هناك إمكانية للتفكير الإبداعي المتعلق باستحداث أنماط مختلفة من الحلول الخاصة بالإسكان.
وتقر كراستِن بأنه لم يتم إجراء دراسات كافية في هذا المضمار، وكذلك بوجود عقبات تعترض طريق تلبية الاحتياجات المختلفة لراغبي السكن في المدن الكبرى، من أولئك المنتمين لفئات وشرائح متنوعة. وتقول: "من السهل للغاية بحق أن تبني مسكنا - أو أن توفره - لشخص بالغ يعيش بمفرده، إذ أن هؤلاء قادرون على الحياة في أي مكان. لكن الأمر يزداد صعوبة بشكل كبير، حينما يكون متعلقا بجعل حي ما ملائما، لأن تعيش فيه العائلات والأسر، ولأن يلبي احتياجات الأطفال من السكان".
لكن بعض المدن تخالف مثل هذه التوجهات السائدة. فـ "فانكوفر" - مثلا - تشترط أن تحتوي نسبة معينة من المساكن الجديدة فيها على أكثر من غرفة نوم واحدة. أما روتردام، فتحظى بالإشادة والمديح، لأنها تعمل على توسيع الأرصفة وتشييد وحدات سكنية صديقة بشكل أكبر للأسرة. غير أن سياسات مثل هذه لا تزال محدودة الانتشار في العالم بشكل كبير.

وكالعادة ينعم الأثرياء وأسرهم بكونهم بمنأى في بعض الأحيان، عن المشكلات التي تواجه الأسر الراغبة في الحياة في المدن. فالمناطق الواقعة في وسط المدن الكبرى تعج بمستويات مختلفة من المرافق الخاصة بتلبية احتياجات الأسر والأطفال، لكن أسعار هذه الخدمات قد لا تكون في متناول الجميع.
وقد لاحظت بالاتزو أن حي مانهاتن المتنوع عرقيا قد أصبح أقل تنوعا من حيث القدرات الاقتصادية لسكانه على مدار السنوات الـ 15 التي عاشتها فيه، وهو ما جعل السكن هناك أكثر صعوبة بالنسبة للكثير من الراغبين في ذلك. وتقول: "يوجد الآن الكثير من الشركات، التي تُعنى بتلبية احتياجات الأطفال، لكن منتجاتها غالية الثمن".
ومن المؤشرات الكاشفة بشأن طبيعة الحياة في سان فرانسيسكو مثلا، أن غالبية الأسر القاطنة هناك تنعم بالثراء، ويذهب 30 في المئة من أطفالها إلى مدارس خاصة.
في الوقت نفسه، هناك من السكان من يريدون أن تُخصص المباني السكنية التي يقطنونها للبالغين وحدهم، دون وجود أطفال على الإطلاق. من بين هؤلاء، إيمي باينز، البالغة من العمر 32 عاما، وزوجها، اللذان كانا يعيشان في مدينة سياتل حتى وقت قريب. لكن باينز - بالمناسبة - ليست كارهة للأطفال، وترغب - مثلها مثل أي أسرة - في أن تكون الشوارع آمنة والمتنزهات والمنازل لطيفة وجميلة. غير أنها تقول إن لديها استعدادا "لدفع أموال أكثر للحياة في منطقة سكنية تخلو من الأطفال، بدلا من الحياة في بقعة يوجد الصغار فيها".
ويشكل تهيئة مساحات تركز على تلبية احتياجات الأشخاص البالغين مثل باينز وزوجها، نشاطا اقتصاديا ذكيا في الكثير من المدن، التي يحرص المسؤولون عنها على إطلاق توجهات وصرعات جديدة على صعيد نمط الحياة. فهناك يمكن أن ترى ازدهارا للمتاجر والمصانع، التي تُعنى بتوفير مجموعة رائعة من خيارات الترفيه للراشدين. ومن بين هذه الخيارات على سبيل المثال، تخصيص غرف لـ"الهروب الذهني" بدلا من مراكز اللعب المخصصة للأطفال، وإقامة يوم للكلاب - مثلا - بدلا من تكريس يوم للأطفال، وغير ذلك من الأنشطة.
لكن الفوائد الناجمة عن ممارسة أنشطة اقتصادية تختص بتلبية احتياجات الشبان العُزاب، لا تنفي احتياج المدن لدعم وتشجيع القوى العاملة الشابة - بغض النظر عن وضعها الاجتماعي - واحتياجها أيضا لتعزيز العلاقات بين الأجيال، وذلك إذا كانت ترغب في البقاء والازدهار على المدى الطويل.
فتوفير المساكن محدودة المساحة المُعدة لإقامة مستأجرين لفترات قصيرة، ربما يلائم الطلاب والمقيمين بشكل عابر في مدينة ما، لكنه لا يوفر حوافز للسكان للبقاء لوقت أطول في المدينة وإدخال تحسينات طويلة المدى على الأحياء التي يقطنون فيها. كما لا يحفز هذا النمط السكان على دفع الضرائب وإنفاق أموالهم في المدن التي يعيشون فيها.
وفي واقع الأمر، تتمتع المدن الأمريكية، التي يقطنها عدد أكبر من العائلات، بنمو اقتصادي أعلى. ومن بين أسباب ذلك، أن لدى تلك المدن قاعدة اقتصادية صلبة وطويلة المدى، تختلف كثيرا عن تلك القطاعات الصناعية المتقلبة والمتحولة، التي تلبي احتياجات العُزاب من الشباب.
ومن بين الفوائد الأخرى الأقل وضوحا للعيان لإقامة عدد أكبر من الأسر في المدن، أن لوجود سكان يضربون بجذورهم لأمد طويل في مدينة ما، ويشبون فيها ويروون قصة التغييرات التي شهدتها بمرور الزمن، قيمة في حد ذاته. ويجلب ذلك بدوره منافع أخرى، فقد اتفق 90 في المئة من مخططي المدن في الولايات المتحدة - بحسب مسح أُجري عام 2008 - على أن التجمعات السكنية التي تُبقي سكانها طيلة حياتهم فيها، كانت أكثر حيوية ونشاطا.
على صعيد آخر، ربما تُمنى جهود تمكين المرأة بانتكاسة إذا اضطرت الأسر للعودة للإقامة في الضواحي بعيدا عن المناطق الواقعة في وسط المدن. فوفقا لما تقول كراستِن: " بالنسبة للكثير من النساء والأطفال، تعني حركة الانتقال للإقامة في الضواحي، أنهم سيعودون أدراجهم إلى نمط من أنماط التوزيع التقليدي للمهام".
ويعود ذلك، إلى أن جانبا كبيرا من الزيادة التي حدثت في نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة خلال تسعينيات القرن الماضي، حدث جزئيا بفعل العودة للإقامة في المدن الغاصة بسكانها، وذلك التماسا للراحة. فسيكون من الصعب على المرأة مواصلة الانخراط في أداء مهام عملها، إذا كان سيتوجب عليها قضاء وقت أطول في رحلتي الذهاب والإياب من وإلى مكان العمل، من الضاحية التي تعيش فيها على أطراف هذه المدينة أو تلك.
في نهاية المطاف، يمكن الإقرار بأن تخطيط مدينة على شاكلة تجعلها مواتية وملائمة لكل النوعيات المختلفة من السكان، أمر ليس باليسير على الإطلاق. لكن علينا القول في الوقت نفسه، إن من المهم كذلك - لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمساواة بين الجنسين وغير ذلك من الأهداف التي يصعب على المرء تحديدها - أن نحول المدينة إلى ما هو أكثر من مهجع للنوم.